سورة التكوير - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التكوير)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِذا الشمسُ كُوِّرتْ} أي: ذُهب بضوئها، من كوَّرت العمامة: إذا لففتها، أي: يُلفّ ضوؤها لفًّا، فيذهب انبساطه وانتشاره، أو: ألقيت عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، من: طعنَة فكوّره: إذا ألقاه على الأرض. وعن أبي صالح: كُوِّرت: نُكّست، وعن ابن عباس رضي الله عنه: تكويرها: إدخالها في العرش. {وإِذا النجومُ انكَدرَتْ} أي: انقضّت وتساقطت، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنه: النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم، وقيل: انكدارها: انطماس نورها، ويُروى: أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم، ليراها مَن عبدها، كما قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].
{وإِذا الجبال سُيِّرتْ} عن أماكنها بالرجعة الحاصلة، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً. {وإِذا العِشَار} جمع: عُشَرَاء، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها، وأعزّها عليهم، {عُطِّلَتْ}؛ تُركت مهملة؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم، لشدة الهول، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول، ويحتمل: إن يكون كناية عن شدة الأمر. {وإِذا الوحوشُ حُشِرت} أي: جُمعت من كل جانب، وقيل: بُعثت للقصاص، قال قتادة: يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم، كالطاووس ونحوه. {وإِذا البحار سُجّرتْ} أي: أُحميت، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض، حتى تصير بحراً واحداً، كما قال تعالى: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الأنفطار: 3]، من سَجر التنّور: إذا ملأه بالحطب، وقيل: يُقذف بالكواكب فيها، ثم تُضرم فتصير نيراناً، فمعنى {سُجِّرتْ} حينئذ: قُذف بها في النار وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار.
{وإِذا النفوس زُوِّجتْ} أي: قُرنت بأجسادها، أو: قرنت بشكلها، الصالح مع الصالح في الجنة، والطالح مع الطالح في النار، أو: بكتابها، أو بعملها، أو: نفوس المؤمنين بالحُور، ونفوس الكافرين بالشياطين. {وإِذا الموؤدةُ} أي: المدفونة حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق، أو لخوف العار بهم من أجلهن، وقيل: كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء، وقد حفر لها حفرة، فيلقيها فيها، ويهيل عليها التراب. وقيل: كانت الحامل إذا اقترتب، حفرت حفرة، فتمتخض عليها، فإذا ولدت بنتاً رمت بها، وإذا ولدت ابناً ضَمّته، فإذا كان يوم القيامة {سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ}، وتوجيه السؤال لها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته.
وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب.
{وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ} أي: صُحف الأعمال، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب، قال صلى الله عليه وسلم: «يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة» فقالت أمُ سلمة: فكيف بالنساء؟! فقال: «شُغِل الناسُ يا أم سلمة» فقالت: وما شغلهم؟ فقال: «نَشْرُ الصُّحُفِ، فيها مثاقيلُ الذرِّ، ومثاقيلِ الخَرْدل» وقيل: نُشرت: فُرقت على أصحابها، وعن مرثد بن وَداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم، أي: مكتوب فيها ذلك، وهذه صحف غير الأعمال.
{وإِذا السماءُ كُشِطَتْ}، قُطعت وأزيلت، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور، {وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ} أي: أوقدت إيقاداً شديداً، غضباً على العصاة، {وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ} أي: قُربت من المتقين، كقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [قَ: 31].
عن ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه ثِنتا عشرة خصلة، ستٌّ في الدنيا، فيما بين النفختين، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى: {وإذا البحار سُجرتْ} على أنَّ المراد بحشر الوحوش: جمعها من كل ناحية، لا حشرها للقصاص، وستٌّ في الآخرة، أي: بعد النفخة الثانية. والمشهور من أخبار البعث: أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها.
وقوله تعالى: {علمتْ نفس ما أحضرت}: جواب {إذا}، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال، مبدؤه، النفخة الأولى، ومنتهاه: فصل القضاء بين الخلائق، أي: تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر، والمراد بحضورها: إمّا حضور صحائفها، كما يُعرب عنه نشرُها، وإمّا حضور أنفسها، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [التوبة: 49، العنكبوت: 54]، وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى...} [النساء: 10]، الآية، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب: «إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم» ولا بُعد في ذلك، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال: يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل، كما نطق به قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً..} [آل عمران: 30] الآية؛ لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حنيئذ: أنها تُشاهد جزاءها، خيراً كان أو شرًّا.
الإشارة: اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا، فالإشارة في قوله: {إذا الشمس كُورت} إلى تكوير النفس وطيها، حين انتقلت إلى مرتبة الروح، وإذا النجوم: نجوم علم الرسوم، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية، يعني يقع الاستغناء عنها، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره، إذا الجبال؛ جبال العقل، سُيرت؛ لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس، وإذا العِشارُ عُطلتْ، أي: النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال، وأعباء التدبير والاختيار، فيقع الغيبة عنها بأثقالها وإذا الوحوش، أي: الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ، أي: فُجرت وانطبقت على الوجود، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره، وظاهره بباطنه، وإذا النفوس، أي: الأرواح، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء، على سُرر التقريب والاجتباء. وقال سهل: تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح، ففرحت في نعيم الجنة، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر. اهـ.
وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ، أي: فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها، وتدبير شؤونها، فتُسأل بأي ذنب قُتلت حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد؟ وقال القشيري: هي الأعمال المشوبة بالرياء، المخلوطة بالسمعة والهوى. اهـ. وإذا الصُحف؛ الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية، وإذا السماءُ كُشطتْ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني، وإذا الجحيم، نار القطيعة، سُعّرتْ لأهل الفرق، وإذا الجنة جنة المعارف، أُزلفت لأهل الجمع والوصال، علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {فلا أُقسم}، لا صلة، أي: أُقسم {بالخُنَّس} أي: بالكواكب الرواجع، مِن: خَنَس إذا تأخر، وهي ما عدا النيرين من الدراريّ الخمسة، وهي: بهرام المريخ، وزحل وعطارد، والزُّهرة، والمشتري، فترى النجم في آخر البرج إذا كرَّ راجعاً إلى أوله، {الجَوَارِ} أي: السيّارة {الكُنَّس} أي: المستترة، جمع كانس وكانسة، وذلك أنَّ هذه النجوم تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوئها، من كُنس الوحش: إذا دخل كناسه، أي: بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وقيل: هي جميع الكواكب، تختنس بالنهار، فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها.
{والليلِ إِذا عسعس}؛ أقبل بظلامه، أو: أدبر، فهو من الأضداد، وقال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس: أدبر، تقول العرب: عسعس الليل وسَعْسع: إذا أدبر ولم يبقَ منه إلاّ اليسير، قال الشاعر:
حَتَّى إذا الصُّبحُ لها تَنَفَّسَا *** وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعسا
والحاصل: أنهما يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، {والصبح إّذا تنفس}؛ امتدّ ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً، ولمّا كان إقبال النهار يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً، فقيل: تنفس الصبح.
وجواب القسم: {إِنه} أي: القرآن {لقولُ رسولٍ كريم} على ربه، وهو جبريل عليه السلام قاله عن الله عزّ وجل، وإنما أضيف القرآن إليه؛ لأنه هو الذي نزل به.
{ذي قوةٍ}؛ ذي قدرة على ما كلف به، لا يعجز عنه ولا يضعف، {عند ذي العرش مكينٍ} أي: عند الله ذا مكانة رفيعة ورتبة عالية، ولمّا كانت المكانة على حسب حال الممكن قال: {عند ذي العرش} ليدل على عظم منزلته ومكانته، والعندية: عندية تشريف وإكرام، لا عندية مكان. {مطاعٍ ثَمَّ} أي: في السموات يُطيعه مَن فيها، أو عند ذي العرش تُطيعه ملائكتُه المقربون، يصدون عن أمره، ويرجعون إليه، وقال بعضهم: ومن طاعتهم له: فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج باستفتاحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحمدٍ حتى دخلها، وكذا النار حتى نظر إليها. اهـ. {أمين} على الوحي.
{وما صاحِبُكم} هو الرسول صلى الله عليه وسلم {بمجنونٍ} كما تزعم الكفرة، وهو عطف على جواب القسم، مدخول في المقسَم عليه، {ولقد رآه} أي: رآى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورته التي خلقه اللهُ عليها، {بالأُفق المبين} أي: بمطلع الشمس الأعلى، وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: «إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون عليها في السماء» قال: أتقدر على ذلك؟ قال: «بلى» قال: فأين تشاء؟ قال: «بالأبطح»، قال: لا يسعني، قال: «بمِنىً»، قال: لا يسعني، قال: «فبعرفات» قال: ذلك بالحري أن يسعني، فواعده، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيًّا عليه، فتحوّل جبريلُ في صورته، فضمّه إلى صدره، وقال: لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش، ورجلاه في التخوم السابعة، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع أي: العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته. اهـ.
أو: ولقد رأى جبريلَ عليه السلام ليلة المعراج. أو: لقد رآى ربه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم بالأُفق الأعلى.
{وما هو على الغيبِ} أي: وما محمد على الوحي، وما يخبر به من الغيوب {بضنين}؛ ببخيل، على قراءة الضاد، من: ضنَّ بكذا: بخل به، أي: لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحُلْوان، بل يُعلّمه لكل مَن يطلبه ولا يكتم شيئاً منه، أو: بمتهم على قراءة: المشالة، من الظنة وهي التهمة، أي: لا ينقص شيئاً مما أوحى إليه أو يزيد فيه، {وماهو بقول شيطان رجيم}؛ طريد، وهو كقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} [الشعراء: 210] أي: ليس هو بقول المسترقة للسمع، وهو نفي لقولهم: إنه كهانة أو سحر.
{فأين تذهبون} وتتركون الحقَّ الواضح؟ وهو استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة وذهب في التيه: أين تذهب، مُثَّلت حالهم في تركهم الحقّ، وعدولهم عنه إلى الباطل، بمَن ترك طريق الجادة، وسلك في غير طريق. وقال الزجاج: معناه: فأيُّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنْتُ لكم؟ وقال الجنيد: فأين تذهبون عنا، وإن من شيء إلاَّ عندنا. اهـ. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: لظهور أنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون عنه؟ {إِن هو إِلاّ ذِكْرٌ للعالَمين} أي: موعظة وتذكير للخلق {لمَن شاء منكم}: بدل من العالمين بإعادة الجار، {إن يستقيم}: مفعول {شاء} أي: القرآن تذكير وموعظة لمَن شاء الاستقامة، يعني: إن الذي شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، {وما تشاؤون} الاستقامة {إِلاّ أن يشاء الله}.
ولمّا نزل قوله تعالى: {لمَن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: {وما تشاؤون إِلاّ أن يشاء الله رب العالمين} أي: مالك الخلق ومربيهم أجمعين، قال ابن منبه: قرأت بضعاً وثمانين كتاباً مما أنزل الله، فوجدتُ فيها: مَن جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر.
وقال الواسطي: أعجزك في جميع أوصافك، فلا تشاء إلاّ بمشيئته، ولا تعمل إلاّ بقوته، ولا تطيع إلاّ بفضله، ولا تعصي إلاّ بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبماذا تفتخر من أفعالك، وليس لك منها شيء؟. اهـ.
وقال الطيبي عن الإمام: إنَّ مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله؛ لأن مشيئة العبد محدثة، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى، ثم قال: وقول المعتزلة: إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضغيف؛ لأنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة الاختيارية حادثة، ولا بد من محدث يحدثها. اهـ.
الإشارة: فلا أُقسم بالخُنَّس؛ الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والشم والذوق والوجدان الباطني، فإنها تخنس، أي: تتأخر عند سطوع حلاوة الشهود، وهي الجوار الكُنَّس؛ لأنها تجري في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة، وتستتر عند الذكر أو اليقظة، والليل إذا عسعس، أي: ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع عوائده، والصُبح، أي: صُبح الاستشراف على نهار المعرفة، إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئاً فشيئاً، إنه، أي: الوحي الإلهامي لَقَولُ رسول كريم واراد رباني، ذي قوة؛ لأنه يأتي من حضرة قهّار قوي متين، فلا يُصادم شيئاً من المساوىء إلاّ دمغه، عند ذي العرش مكين، ولذلك تَمَكَّن صاحبه مع الحق، واكتسب مكانة عنده، حيث كان من المقرَّبين السابقين؛ مطاع ثَمَّ أمين؛ لأنّ الوارد الإلهي تجب طاعته؛ لأنه يتجلّى من حضرة الحق، وهو أمين على ما يأتي به من العلوم، وما صاحبكم بمجنون، يعني العارف صاحب الواردات الألهية، ولقد رآه، أي: رأى ربه بعين البصيرة والبصر، بالأُفق المبين، وهو على الأسرار والمعاني، حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو: من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وماه هو على الغيب بضنين، أي: ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار التوحيد الخاص بمُتَّهَم، ولا بخيل، بل يجود به على مَن يستحقه، وما هو بقول شيطان رجيم، إذ لم يبقَ لهم شيطان حتى يخلط وسوسته بواردات قلوبهم، فأين تذهبون عن اتباع طريقة الموصلة إلى حضرة الحق، إن هو إلا ذكر للعالمين أي: ما جعله الله في كل زمان إلاّ ليُذَكِّر أهل زمانه، لمَن شاء أن يستقيم على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية، ولكن الأمر كله بيد الله، وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين. اللهم شِئنا بفضلك، واقصدنا بعنايتك، وخصنا برعايتك، واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى، آمين.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.